سورة الدخان - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الدخان)


        


{حم * والكتاب المبين} الكلامُ فيهِ كالذي سلفَ في السورةِ السابقةِ. {إِنَّا أنزلناه} أي الكتابَ المبينَ الذي هُو القُرآنُ. {فِى لَيْلَةٍ مباركة} هيَ ليلةُ القدرِ، وقيلَ ليلةُ البراءةِ ابتدىءَ فيها إنزالُه، وأُنزلَ فيها جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا من اللوحِ وأملاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ على السَّفرَةِ ثم كانَ ينزله على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَ ما في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً كما مرَّ في سورةِ الفاتحةِ. ووصفُها بالبركةِ لَما أنَّ نزولَ القُرآنِ مستتبعٌ للمنافعِ الدينيةِ والدنيويةِ بأجمعِها أو لِما فيها من تنزلِ الملائكةِ والرحمةِ وإجابةِ الدعوةِ وقسمِ النعمةِ وفصلِ الأقضيةِ وفضيلةِ العبادةِ وإعطاءِ تمامِ الشفاعةِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقيلَ: يزيدُ في هذهِ الليلةِ ماءُ زمزمَ زيادةً ظاهرةً {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} استئنافٌ مبينٌ لما يقتضِي الإنزالَ كأنَّه قيلَ: إنَّا أنزلناهُ لأن من شأنِنا الإنذارَ والتحذيرَ من العقابِ، وقيلَ: جوابٌ للقسمِ وقولُه تعالى إنَّا أنزلناهُ إلخ اعتراضٌ وقيلَ: جوابٌ ثانٍ بغيرِ عاطفٍ. {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} استئنافٌ كما قبلَهُ فإنَّ كونَها مفْرَقَ الأمورِ المحكمةِ أو الملتبسةِ بالحكمةِ الموافقةِ لها يستدعِي أنْ ينزلَ فيها القرآنُ الذي هُو من عظائِمها، وقيلَ: صفةٌ أُخرى لليلةِ وما بينَهُما اعتراضٌ وهذا يدلُّ على أنَّها ليلةُ القدرِ ومَعْنى يُفرقُ أنه يكتبُ ويفصلُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ من أرزاقِ العبادِ وآجالِهم وجميعُ أمورِهم من هذِه الليلةِ إلى الأُخرى من السنةِ القابلةِ، وقيلَ: يبدأُ في استنساخِ ذلك من اللوحِ في ليلةِ البراءةِ ويقعُ الفراغُ في ليلةِ القدرِ فتدفعُ نسخةُ الأرزاقِ إلى ميكائيلَ ونسخةُ الحروبِ إلى جبريلَ وكذا الزلازلُ والخسفُ والصواعقُ، ونسخةُ الأعمالِ إلى إسماعيلَ صاحبِ سماءِ الدُّنيا وهُو مَلكٌ عظيمٌ ونسخةُ المصائبِ إلى مَلكِ الموتِ عليهم السَّلامُ. وقرئ: {يُفرَّقُ} بالتشديدِ، وقرئ: {يَفرُقُ} على البناءِ للفاعلِ أي يفرقُ الله تعالى كلَّ أمرٍ حكيمٍ، وقرئ: {نَفْرُقُ} بنونِ العظمةِ.


{أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا} نصبَ على الاختصاصِ أيْ أعنِي بهذا الأمرِ أمراً حاصلاً من عندِنا على مُقتضَى حكمتِنا وهو بيانٌ لفخامتِه الإضافيةِ بعدَ بيانِ فخامتِه الذاتيةِ ويجوزُ كونُه حالاً من كلِّ أمرٍ لتخصصِه بالوصفِ أو من ضميرِه في حكيمٍ وقد جُوِّزَ أنْ يرادَ به مقابلَ النهي ويجعلَ مصدراً مؤكداً ليُفرَقُ لاتحادِ الأمرِ والفرقانِ في المَعْنى، أو لفعلِه المضمرِ لما أنَّ الفرقَ بهِ، أو حالاً من أحدِ ضميرَيْ أنزلناهُ أي آمرينَ أو مأموراً بهِ {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بدلٌ من إنَّا كُنَّا منذرينَ وقيلَ: جوابٌ ثالثٌ وقيل: مسأنفٌ، وقولُه تعالى {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} غايةٌ للإرسالِ متأخرةٌ عنه على أنَّ المرادَ بها الرحمةُ الواصلةُ إلى العبادِ وباعثٌ متقدمٌ عليه على أنَّ المرادَ مبدؤُها أي إنَّا أنزلَنا القُرآنَ لأنَّ من عادتِنا إرسالَ الرسلِ بالكتبِ إلى العبادِ لأجلِ إفاضةِ رحمتِنا عليهم أو لاقتضاءِ رحمتِنا السابقةِ إرسالَهم، ووضعُ الربِّ موضعَ الضميرِ للإيذانِ بأنَّ ذلكَ من أحكامِ الربوبيةِ ومقتضياتِها، وإضافتُه إلى ضميرهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتشريفهِ أو تعليلٌ ليُفرقُ أو لقولِه تعالى أمراً، على أنَّ قولَه تعالى رحمةً مفعولٌ للإرسالِ كَما في قولِه تعالى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} أي يفرقُ فيها كلُّ أمرٍ أو تصدرُ الأوامرُ من عندِنا لأنَّ من عادتِنا إرسالَ رحمتِنا. ولا ريبَ في أنَّ كلاً من قسمةِ الأرزاقِ وغيرِها والأوامرِ الصادرةِ منه تعالَى من بابِ الرحمةِ فإن الغايةَ لتكليفِ العبادِ تعريضُهم للمنافعِ. وقرئ: {رحمةٌ} بالرفعِ، أي تلكَ رحمةٌ. وقولُه تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} تحقيقٌ لربوبيتِه تعالى وأنَّها لا تحِقُّ إلا لمَنْ هذهِ نعوتُه.
{رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدلٌ من ربِّك أو بيانٌ أو نعتٌ، وقرئ بالرفعِ على أنَّه خبرٌ آخرُ أو استئنافٌ على إضمارِ مبتدأٍ {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إنْ كنتُم من أهلِ الإيقانِ في العلومِ أو إنْ كنتُم موقنينَ في إقرارِكم بأنَّه تعالَى ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينَهُما إذَا سئلتُم مَنْ خلَقها فقلتُم الله علمتُم أنَّ الأمرَ كمَا قُلنا أو إنْ كنتُم مريدينَ اليقينَ فاعلمُوا ذلكَ {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملةٌ مستأنفةٌ مقررةٌ لما قبلَها، وقيلَ: خبرٌ لقولِه ربِّ السمواتِ إلخ وما بينهما اعتراضٌ {يُحْيىِ وَيُمِيتُ} مستأنفةٌ كما قبلَها وكَذا قولُه تعالى {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} بإضمارِ مبتدأٍ أو بدلٌ من ربِّ السمواتِ على قراءةِ الرفعِ، أو بيانٌ أو نعتٌ له، وقيلَ: فاعلٌ ليميتُ، وفي يُحيي ضميرٌ راجعٌ إلى ربِّ السمواتِ. وقرئ بالجرِّ بدلاً من ربِّ السمواتِ عَلى قراءةِ الجرِّ. {بْل هُمْ فَى شَكّ} مما ذُكِرَ من شؤونِه تعالَى غيرُ موقنينَ في إقرارِهم {يَلْعَبُونَ} لا يقولونَ ما يقولونَ عن جِدَ وإذعانٍ بلْ مخلوطاً بهُزْؤٍ ولعبٍ.


الفاءُ في قولِه تعالى {فارتقب} لترتيبِ الارتقابِ أو الأمرِ به على ما قبلَها فإنَّ كونَهُم في شكَ مما يُوجِبُ ذلكَ حَتْماً أي فانتظرُ لَهُم {يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي يومَ شدَّةٍ ومَجَاعةٍ فإنَّ الجائعَ يَرَى بينَهُ وبينَ السماءِ كهيئةِ الدُّخانِ إما لضعفِ بصرهِ أو لأنَّ في عامِ القحطِ يُظلمُ الهواءُ لقلةِ الأمطارِ وكثرةِ الغُبارِ أو لأنَّ العربَ تُسمِّي الشرَّ الغالبَ دُخاناً وذلكَ أنَّ قريشاً لمَّا استعصتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دعَا عليهم فقالَ: «اللهَّم اشدُدْ وطأتَكَ على مضرَ واجعلْها عليهم سنينَ كسِنِي يوسفَ» فأخذتْهُم سَنةٌ حتى أكلُوا الجيفَ والعظامَ والعِلْهِزَ وكانَ الرجلُ يَرَى بينَ السماءِ والأرضِ الدُّخانَ وكان يحدثُ الرجلَ ويسمعُ كلامَهُ ولا يراهُ من الدخانِ وذلكَ قوله تعالى: {يَغْشَى الناس} أي يحيطُ بهم {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي قائلينَ ذلكَ، فمشَى إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أبُو سفيانَ ونَفَرٌ معَهُ وناشدُوه الله تعالَى والرحمَ وواعدُوه إنْ دعَا لهم وكشفَ عنُهم أنْ يُؤمنوا، وذلكَ قولُه تعالى {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} وهَذا قولُ ابنِ عبَّاسِ وابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنُهم وبه أخذَ مجاهدٌ ومقاتلٌ وهو اختيارُ الفَرَّاءِ والزَّجَّاجِ، وقيلَ: هو دُخانٌ يأتِي من السماءِ قبلَ يومِ القيامةِ، فيدخلُ في أسماعِ الكفرةِ حتَّى يكونَ رأسُ الواحدِ كالرأسِ الحنيذِ ويعترِي المؤمنَ منه كهيئةِ الزكامِ وتكونُ الأرضُ كُّلها كبيتٍ أُوقدَ فيه ليسَ فيه خصاصٌ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «أولُ الآياتِ الدُّخانُ ونزولُ عيسى ابنِ مريمَ ونارٌ تخرجُ من قعرِ عدنِ أبْينَ تسوقُ النَّاسَ إلى المحشرِ، قالَ حذيفةُ: يا رسولَ الله وما الدُّخانُ؟ فتَلا الآيةَ، وقالَ يملأُ ما بينَ المشرقِ والمغربِ يمكثُ أربعينَ يوماً وليلةً أمَّا المؤمنُ فيصيبُه كهيئةِ الزكمةِ وأما الكافرُ فهو كالسكرانِ يخرجُ من مَنْخِريهِ وأذنيهِ ودبُرهِ». والأولُ هُو الذي يستدعيهِ مساقُ النظمِ الكريمِ قطعاً. فإنَّ قولَه تعالى: {أنى لَهُمُ الذكرى} إلخ ردٌّ لكلامِهم واستدعائِهم الكشفَ وتكذيبٌ لهم في الوعدِ بالإيمانِ المنبىءِ عن التذكرِ والاتعاظِ بما اعتراهُم من الداهيةِ أي كيفَ يتذكرونَ أو مِنْ أين بتذكرون بذلك ويفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذابِ عنهم {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} أيْ والحالُ أنَّهم شاهُدوا منْ دَوَاعي التذكرِ وموجباتِ الاتعاظِ ما هو أعظمُ منِهُ في إيجابِها حيثُ جاءَهُم رسولٌ عظيمٌ الشأنِ وبين لهم مناهجَ الحقِّ بإظهار آياتٍ ظاهرةٍ ومعجزاتٍ قاهرةٍ تخِرُّ لها صُمُّ الجبال. {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} عن ذلك الرسول وهو هو ريثما شاهدوا منه ما شاهدوه من العظائمِ الموجبةِ للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولِّي {وَقَالُواْ} في حقِّهِ {مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي قالوا تارة يعلمُه غلامٌ أعجميٌّ لبعض ثقيفٍ وأُخرى مجنونٌ، أو يقولُ بعضهم كذَا وآخرونَ كَذا فَهلْ يتوقعُ من قوم هذه صفاتُهم أنْ يتأثرُوا بالعظة والتذكير، وما مثلُهم إلا كمثلِ الكلبِ إذَا جاعَ ضَغَا وإذا شبعَ طَغَى.

1 | 2 | 3